وسائل التواصل الاجتماعي وآليات جديدة لتشكيل الرأي العام

محمد قيراط
هل وفر الإعلام الجديد -فعلا- منصة خلّاقة وفرصة سانحة للتعبير عن الضمير الجمعي؟ وهل ستواصل هذه الشبكات في القيام بأدوارها المعرفة؟

أرجع الكثيرون ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن إلى الشبكات الاجتماعية وهذا من خلال نظرية خطية أحادية الطرح والتحليل. فالإعلام الجديد ساهم حقيقة في تجنيد الجماهير وتعبئتهم للاستمرار في الاحتجاج والتظاهر، لكن أسباب الثورة أكبر بكثير من الشبكات الاجتماعية. فهناك الفقر والحرمان والفساد والطغيان والاستبداد وأشياء أخرى كثيرة جعلت من الفئات الاجتماعية المختلفة تفكر في الثورة والتغيير والنظر إلى مستقبل واعد.

ما وفرته الشبكات الاجتماعية هو فضاء جديد يعتمد على وسائل اتصالية سريعة في عملية نقل الصورة والنص والصوت. هذه التكنولوجيا الجديدة ساعدت في عملية نقل الأخبار والأحداث من ساحات وميادين الأحداث، ليس للمهتمين في الداخل فقط، وإنما إلى العالم بأسره. كما ساعدت الشبكات الاجتماعية الجميع ذكورا وإناثا، شباب وكهول في المشاركة في الفضاء العام الافتراضي الجديد الذي عجزت السلطة بأجهزتها البوليسية أن تضع قيودا لحجبه أو التحكم في محتواه ومراقبته. نجح الإعلام الجديد بدرجة كبيرة في نقل الأحداث من الساحات والميادين بسرعة كبيرة وجعلها متاحة ومتوفرة للجميع ليس فقط محليا، وكذلك دوليا؛ حيث ساهم الجميع كل حسب إمكانياته في نقل الأحداث أو مناقشتها والتعليق عليها...الخ. كما نجح كذلك في ربط المواطنين المغتربين بوطنهم ووفر لهم إمكانية التفاعل والمساهمة والمشاركة والنقاش وإبداء الرأي. هذه الخصائص والمميزات ساعدت على إعطاء نفس كبير للحركات الاحتجاجية وقوة الصمود والاستمرار حتى تحقيق الأهداف المنشودة.

المقصود بالإعلام الجديد هو الجيل الجديد من تكنولوجية الاتصال كالأنترنيت والاتصال عن طريق الأقمار الصناعية والبث التلفزيوني المباشر وغيرها من الوسائل التي غيرت قنوات واستخدامات الاتصال ابتداء ًمن الربع الأخير من القرن الماضي. وإذا أخذنا الانترنيت كمثال نلاحظ أنه يوفر ثلاثة مجالات للاستخدامات: الاستخدام الفردي-الجماعي (المدونات، المجموعات الإخبارية، البريد الإلكتروني، الدردشة، والمواقع على الشبكة). أما المجال الثاني فيشمل المنظمات والمؤسسات (منظمات الأعمال، مواقع الشركات، جمعيات، مواقع إدارات ودوائر حكومية ومواقع كيانات مختلفة). أما المجال الثالث فيشمل المجال الإعلامي أي استخدام وسائل الإعلام للشبكة كمواقع المؤسسات الإعلامية والإعلام الإلكتروني بأشكاله المختلفة.

ساهم الإعلام الجديد في كسر آليات الاتصال التقليدية وهيمنة السلطة على الإعلام وخاصة الرسمي منه وبذلك التحكم في الرأي العام. فالبث الفضائي المباشر والتطبيقات المختلفة للأنترنيت كالتدوين والمنتديات والشبكات الاجتماعية فرضت كلها منطقا جديدا وحضورا إعلاميا وعلنية لم تكن موجودة من قبل. فوساطة الدولة انهارت، هذه الوساطة التي كانت تحدد للجمهور ما يشاهد وما يقرأ وما يسمع. من جهة أخرى، أدت التطورات الجديدة التي أفرزها الإعلام الجديد إلى قدرة المواطن على امتلاك أدوات التواصل والنشر والحضور في الفضاء العام. فالشبكات الاجتماعية فتحت المجال أمام المواطنين لطرح قضاياهم ومشاكلهم وهمومهم وللتفاعل فيما بينهم وهذا ما أفرز فضاءً عاما نشطا وفعالا. هذه الشبكات كذلك عززت ثقافة الحوار والنقاش وعززت الاستقلالية الثقافية والانفتاح على الآخر.

يوفر الإعلام الجديد حزمة من الفرص للأفراد والمنظمات والجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية والسياسية والرياضية والثقافية والدينية والمؤسسات الإعلامية...الخ لتبادل المعلومات والتفاعل والتواصل مباشرة مع الآخر بدون تكلفة وفي فترة وجيزة لا تتعدى ثوان معدودات. يوضح "نويمن" الفرص التي سيقدمها الإعلام الجديد على النحو التالي: سيختصر معنى المسافة الجغرافية، يسمح بارتفاع كبير في حجم الاتصال، يوفر إمكانية زيادة سرعة الاتصال، يوفر فرص الاتصال التفاعلي، ويسمح بأشكال التواصل التي كانت في السابق منفصلة وغير قابلة للتماس والتشابك. (http://en.wikipedia.org/wiki/news_media).

لقد أستطاع الإعلام الجديد أن يحدث ثورة في عالم الاتصال لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، حيث أنه جاء بشبكة اتصال عالمية سمعية وبصرية ونصية إلكترونيا والتي من شأنها أن تنهي التمييز بين الشخصي والجماهيري وبين الاتصال العام والخاص. يرى كل من دوجلاس كلنر وجايمس بوهمان أن الإعلام الجديد وخاصة الانترنيت يوفر فضاءً عاما ديمقراطيا يستطيع من خلاله المواطنون التفاعل والحوار والنقاش ومن ثمة المساهمة في نقاش غني مفتوح للجميع. يوفر الإعلام الجديد مناخ الفرص الشاملة على المستوى العالمي لفضاء عام معولم. نشاهد اليوم "مجتمعات افتراضية" على الشبكة اختصرت المسافات الجغرافية وتخلصت من الضغوط الاجتماعية. لكن الإشكال المطروح هنا، هو ما موقع دول العالم الثالث في العولمة وفي الفضاء العام المعولم. يرى الأكاديميون المختصون أن الإعلام الجديد بصدد إفراز مجتمع ما بعد الثورة الصناعية أو المجتمع المعولم؛ بينما نلاحظ أن غالبية الدول النامية ومن بينها الدول العربية ما زالت تعيش في مرحلة الموجة الثانية كما حددها ألفين طوفلر. ماذا عن الفجوة الرقمية و80 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة. هل العولمة توفر الفرص بالتساوي للجميع؟ وهل كل واحد بإمكانه أن يبني طريقة حياته ويختار أيديولوجيته من العدد الهائل من الاختيارات؟

من أهم المواصفات التي تميز شبكات التواصل الاجتماعي هي أن المحتوى يصنعه الزوار والمتصفحون. فالتطورات الجديدة التي شهدتها شبكة الانترنيت أدت إلى نقلة كبيرة في عالم التواصل عبر الانترنيت. وعلى عكس الإعلام التقليدي، فإن الإعلام الجديد أدخل مفاهيم وآليات جديدة في عالم الاتصال، حيث أن نموذج هارولد لاسوال- المرسل والمستقبل والوسيلة والرسالة ورجع الصدى- أصبح لا يفي بالغرض لفهم العملية الاتصالية، وحتى نظريات حارس البوابة وتحديد الأجندة وغيرها أصبحت غير صالحة لشرح البيئة الجديدة للتواصل الاجتماعي. ففي هذه البيئة أصبح المستقبل هو المرسل وهو صانع الرسالة الإعلامية وأصبح هو حارس البوابة ينتقي ما يحلو له ويتصفح ما يلبي رغباته ويتغاضى عما لا يعجبه. فحرية النشر والرأي مضمونة في الشبكات الاجتماعية وهذا ما يوفر جو النقاش والحوار والاختلاف وما يفرز في نهاية المطاف السوق الحرة للأفكار. وهنا نلاحظ التواصل الفعال بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي حيث تجمعهم اهتمامات مشتركة ومشاكل مشتركة وقضايا تشغل بالهم. أضف إلى ذلك أن المستخدم يختار ويتحكم في المحتوى المعروض لأن مستخدمي الموقع يختارون بعضهم بعضا ويعرفون بعضهم ويتعارفون أكثر بعد الاستخدام والتواصل الفعال بينهم. هذا ما يؤدي إلى تفاعلية وإلى مشاركة فعالة تثري النقاش والحوار وتقدم أفكارا خلاقة وممتازة.

لا يوجد هناك مجالا للشك أن الشبكات الاجتماعية لعبت دورا محوريا في الثورات التي هزت الوطن العربي منذ نهاية ديسمبر 2010. فالإعلام الجديد وفر وسائل وإمكانيات معتبرة للناشطين السياسيين لاختراق الوسائل والطرق المختلفة التي كانت تستعملها السلطة للتعتيم والتكميم وإسكات من يحاول الخروج عن طاعتها وإرادتها. ساعد الإعلام الجديد على إدخال التفاعلية والسرعة بين المشاركين في الفضاء العام الإلكتروني، الأمر الذي كان غير ممكن في زمن البرقيات والفاكس والهاتف. فالوسائل الجديدة سمحت بتدويل القضية وبإيصال صوت الفقراء والمهمشين والشباب العاطل عن العمل إلى أرجاء العالم المختلفة. شباب الثورات العربية استطاعوا أن يتواصلوا مع بعضهم البعض ليس داخل حدود بلدهم فقط، بل في الدول العربية والعالم بأسره واستطاعوا أن يكسبوا تعاطف وتضامن مواطنيهم المغتربين في دول العالم. فالإعلام الجديد قام بتعبئة الجماهير ووفر الفرصة للمتظاهرين والمحتجين بنشر موجات من النصوص والفيديوهات والصور مباشرة من ساحات وميادين الثورة إلى الملايين وبطريقة غير مباشرة إلى شبكات الأخبار العالمية كسي أن أن، وبي بي سي، والجزيرة والعربية. ونظرا لهذه الميزات والتي تتمثل أساسا في القدرة على إرسال رسائل إلى جماهير عالمية عريضة يمكن اعتبار الشبكات الاجتماعية كمصدر رئيسي مهم للعمل المشترك والتغيير الاجتماعي.

إن الدور الذي لعبته الشبكات الاجتماعية في الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا في السنوات الماضية يشير إلى بروز نمط جديد من التواصل والتفاعل بين مكونات الشعب لتحقيق مطالبه المشتركة. فالإعلام الجديد أفرز فضاءً عاما اجتمعت فيه القوى الشعبية للإطاحة بالأنظمة الفاسدة والطاغية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل سيستمر هذا الفضاء لتحقيق أهداف الثورة في المستقبل، من خلال مرحلة انتقالية تهدف إلى بناء الركائز والدعائم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة. وهذا هو التحدي الأكبر لأن الإطاحة بالأنظمة الفاسدة ما هي إلا مرحلة أولى لا تعني شيء إن لم تكملها مرحلة ثانية توفر فرص العمل والديمقراطية والشفافية والحرية والعدالة الاجتماعية. هل ستتوقف مهام الشبكات الاجتماعية عند التعبئة فقط، أم أن هناك فرص جديدة يجب استثمارها واكتشافها لتوظيف هذه الشبكات في تحقيق التنمية المستدامة والحكم الراشد. أم أن هذه المهمة هي من اختصاص أهل السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني والمنظومة الإعلامية. تحديات كبيرة تنتظر من يريد التغيير وتوفير العيش الكريم لأفراد المجتمع وخاصة الشباب العاطل عن العمل والمتعطش للتمتع بحقه في حياة كريمة وشريفة.

من جهة أخرى نلاحظ من أطلق على شبكات التواصل الاجتماعي "شبكات الانفصال الاجتماعي" أو "شبكات الاغتراب الاجتماعي" وهذا نظرا لقضاء مثل هذه الشبكات على الكثير من مقومات الاتصال الإنساني ومن الموضوعية والأخلاق والنزاهة والالتزام. فإذا كانت هذه التكنولوجيات الحديثة تتميز بإيجابيات وبأشياء جديدة وكثيرة أضافتها للفضاء الإتصالي الإنساني فإنها من جهة أخرى تم استغلالها في أشياء أساءت أكثر مما أفادت الانسان. وإذا قيمنا التجربة على المستوى العربي نجد أن أنظمة الحكم ما زالت تسيطر بطريقة أو بأخرى على قنوات الاتصال الرسمي وعلى السيطرة على مفاتيح الرأي العام وكذلك مضايقة نشطاء محطات التواصل الاجتماعي سواء عن طريق المحاكمات التعسفية أو السجن أو في بعض الأحيان التصفيات الجسدية. من سلبيات شبكات التواصل الاجتماعي كذلك التضليل والتلاعب والتحريف والتشويه. عل الصعيد الشخصي والإنساني نلاحظ العزلة والانجراف نحو عالم افتراضي بعيدا عن الواقع. هذه الشبكات أصبحت منصات لنشر أفكار هدامة وثقافات الإباحية والمجون وانتهاك خصوصية الفرد. لا ننسى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي من قبل "داعش" وغيرها من الجماعات الإرهابية التي أتقنت جيدا استخدامها لجمع الأموال والتجنيد ونشر أيديولوجيتها بكل مهنية وحرفية.

محمد قيراط
محمد قيراط

أستاذ الإعلام بجامعة قطر

التعليقات