الإعلام بين الهواية والاحتراف: النت يخلط الأوراق...

نصر الدين بن حديد
وصول التقنيات المتطورة إلى الهواتف المحمولة، أعطى للأفراد "أستوديو" متنقل يمكنه من خلاله التصوير والمونتاج وإضافة المؤثرات، وهو بذلك نقل عالم الصحافة نقلة خلطت الأوراق بين الهواة والمحترفين

جاءت مواقع التواصل الاجتماعي، لتمحو هي الأخرى فوارق أخرى، بمعنى التأسيس أو هو تنزيل «المساواة» بين «الأفراد»، بمنطق «العدالة بين الحسابات» (جمع حساب)، حين لا فرق (قانونيّا) بين صحفي شهير وبارز، وشخص لا شهادات له ولا وظيفة في المجال الإعلامي، إلاّ بالقدرة على جذب المتلقّين وما هي «مهارة» التحوّل إلى «صانع رأيّ عام»، مهما كانت الهويّة السابقة لولوج هذه العوالم.

تحوّل الهاتف المحمول، من مجرّد «هاتف» (بمعنى تأمين المكالمات) إلى ما يشبه الكمبيوتر المحمول، مع إضافة القدرة على التقاط الصور وتصوير المشاهد، ومن ثمّة بثّها بصفة آنيّة، جعل «الفرد» الذي لا يملك دراية بعلم الصحافة والإعلام وفنون الاتصال، صاحب قدرة على نقل «الخبر» (صوتًا وصورة)، بل كثيرا ما تلجأ كبرى القنوات الفضائيّة صاحب القدرة الانتاجيّة الضخمة وشبكة المراسلين الممتدة والواسعة، إلى بثّ مشاهد التقطها «هواة» بوسائل تكنولوجيّة غير محترفة، وبجماليّة لا علاقة لها بالقواعد المعمول بها في عوالم الاحتراف.

هذه «الحاجة»، أيّ حاجة القنوات الكبرى إلى صور ومشاهد الأفراد (غير المحترفين)، مكّنت من تجاوز عقبات كثيرة، أهمّها عدم القدرة القانونيّة على التغطية المحترفة (بمعنى منع المراسلين) وكذلك عجز هذه القنوات على أن تمتلك شبكة مراسلين (محترفين) بالعدد والعتاد، الذي يؤمّن عدم تفويت أيّ حادث أينما كان، أدخل العلاقة بين الهواية والاحتراف في جدليّة جديدة، استطاعت أن تمحو الحدود الفاصلة والصارمة بين العالمين.

هذه «الحاجة»، أيّ حاجة المحترف إلى الاستعانة بما هو انتاج الهواة، سبقه وصاحبه تأسيس هؤلاء الهواة، لحسابات وصفحات تسبق المحطات والقنوات في تغطية الكثير من الأحداث، بل كثيرا ما أخذت هذه القنوات عن هذه الحسابات والصفحات دون إذن أو تنسيق، ممّا يخلق إشكاليّة أولى، أخلاقية ، أيّ جواز النقل والبثّ من أصله دون اذن ودون الايفاء بحقوق صاحب الحقّ (الأدبيّة على الأقل)، وإشكاليّة مصداقيّة، أيّ من يضمن أنّ هذه اللقطات لم تخضع للتلاعب أو الدسّ، حين ثبت عديد المرّات أنّ جهات ذات خلفيّة سياسيّة سرّبت لقطات فيديو في شكل «انتاج هواة» بغية التأثير في الرأي العام والذهاب به في هذا الاتجاه أو ذاك؟

احساس الفرد العادي، عديم الخبرة بعلوم الصحافة وعديم القدرة على انتاج لقطات فيديو بالمفهوم الاحترافي، بأنّه يملك «عصا سحريّة»، تحوّل بفضلها من «متلقّ» (لا يتجاوز ردّ الفعل)، إلى «باثّ» (يملك القدرة على التأثير)، خرج بالمعادلة التقليديّة (أّيّ باثّ يقابله متلقّ) إلى مفهوم جديد من العلاقة، التي لم تتوضّح بعد، خاصّة وأنّ بعض «الهواة» استطاعوا بهواتف نقّالة أو كاميرات تصوير متوفرة بأسعار مقبولة، التحوّل إلى «نجوم» [ضمن المعنى المتداول] بفعل قنوات اليوتوب، وكذلك صفحات الفايسبوك، دون أن ننسى سعي قنوات محترفة إلى جذب هؤلاء (الأفضل والأشدّ قدرة على التأثير) إلى عالم الاحتراف، واستغلال مهاراتهم ومواهبهم ومن ثمّة أعمالهم على شاشات هذه القنوات المحترفة، ذات الطاقة الانتاجيّة الضخمة والقدرات الماليّة الهائلة (مقارنة مع هؤلاء الهواة في بداياتهم)...

أخطر من هذه التحوّلات التكنولوجيّة، حين صارت الهواتف النقّالة الذكيّة، تؤمّن جودة صورة عالية، الخلط القائم بين عموم المتلقين بين «الإعلام المحترف» من جهة وما هو «إعلام المواطن» (أيّ ما يثبّه الأفراد)، بل تحوّل «إعلام المواطن» هذا، بحكم الوفرة وسهولة البثّ إلى «المرجع» أو هو «أصل الحقيقة» (القائمة أو المتخيّلة)، ومن ثمّة صارت عين المتلقّي العادي، تشاهد القنوات المحترفة بمنطق أخر، أيّ منزوعة من «قداسة الماضي»، حين كان التلقي في صمت هو القاعدة...

القنوات المحترفة قلبت الصورة، وصارت تخصّص برامج أو فقرات لصفحات التواصل الاجتماعي، سواء أخذا عن حسابات السياسيين وأصحاب القرار (بمعنى نقل المعلومة)، مثل ما هو سائد إثر كلّ تغريدة للرئيس الأمريكي دولاند ترمب، أو الاختيار من انتاج هؤلاء «الهواة» الذين يعتبرون ذكر أسمائهم على هذه القنوات نصرًا مبينًا.

أيضًا وحين نتجاوز استقطاب بعض «الهواة» من قبل القنوات المحترفة، نجد أنّ العديد من هذه القنوات صار «يقلّد» أسلوب الهواة، أو بالأحرى يحاول الاستفادة من الأنماط السائدة على اليوتوب والفايسبوك. مثال ذلك برنامج «فوق السلطة» التي تنتجه وتبثّه قناة الجزيرة الاخباريّة، وهو أبعد ما يكون عن «الإخبار» المجرّد أو «التحليل» الذي دأبت عليه القناة، بل هو يتأسّس (أيّ البرنامج) على فعل «الكاريكاتور» ضمن المعنى اللغوي المباشر، أيّ التأكيد هزلا وسخرية على بعض النقاط، في لهجة اقرب إلى الكوميديا، أيّ دون علاقة بما هو سائد في القناة من جديّة تليق بالبرامج بالنشرات الاخباريّة والبرامج الحواريّة والأعمال التسجيليّة.

نجاح برنامج «فوق السلطة» ومدى الاقبال عليه، خاصّة على وسائل التواصل الاجتماعي يثبت أنّ العلاقة بين «منتهى الهواية» مقابل «قمّة الاحتراف»، علاقة جدليّة، وأعمق وأشدّ تأثيرات في العقليات ومناخات التلقّي من مجرّد تقديس هذا أو تدنيس ذاك.

نصر الدين بن حديد
نصر الدين بن حديد

إعلامي جزائري مقيم في تونس، قدم العديد من الدورات التدريبية في فن الكتابة الصحافية

التعليقات