تكنولوجيا الاتصال الحديثة.. هل تشكل " سلطة خامسة " ؟

نُبحر في شبكات التواصل ونقدم كما هائلا من المعلومات عن حياتنا اليومية، عامتها وخاصتها، ونعجز في النهاية عن الخروج من دوامة فرضتها علينا فيسبوك وأخواتها.. لنجد أنفسنا في النهاية نتساءل عن ماهية هذه المواقع وماذا تريد منا بالضبط
فبحسب معهد الدراسات الاجتماعية التابع لجامعة ميشغن الأمريكية جاء في تقرير لمصلحة الغابات في الولايات المتحدة، صدر في سنة 2009 أن الأطفال الأمريكيين يقضون أقل من نصف ما كانوا يقضونه خارج منازلهم منذ عشرين سنة .. وذلك بالرغم من أن فقدان المجتمعات المتقدمة لعلاقاتها بالطبيعة ليس بالأمر الجديد، حيث أشارت دراسة بريطانية في العام 2002 أن الطفل الذي يبلغ متوسط عمره ثماني سنوات يستطيع بسهولة التعرف إلى الألعاب الإلكترونية اليابانية ( بيكاتشو، بوكمون، ميتابود .. ) أكثر من تعرفه إلى أنواع الكائنات الطبيعية التي تعيش في محيطه السكني كالخنفساء، أو شجرة البلوط.
وإذا كان من البديهي القول إن التكنولوجيا الجديدة هي في حد ذاتها نتيجة تفكير وابتكار، فإن السؤال المطروح هو حول ما إذا كان الأمر يتعلق بعقل فطن بكل ما تحمله كلمة الفطنة من دلالة توحي بمعنى النباهة، اليقظة وروح النقد ؟
فتكنولوجيا الانترنيت ليست نافعة ولا ضارة في حد ذاتها، وإنما الاستعمال وحده هو الذي يقودنا إلى الحكم على ذلك .
لقد أصبح باستطاعة أي شخص أن يستقبل ويطلع في بيته على مئات الجرائد والمواقع الاخبارية من مختلف أنحاء العالم وقد يحول هذا الأمر إلى نعت الشخص المعني بالجنون،، فأي إنسان هذا الذي يستطيع قراءة خمس مئة صحيفة يوميا على سبيل الحصر إن لم يكن مجنونا بالفعل، لأن ذلك يتطلب قراءة جريدة كل ثلاثة دقائق وأكثر من عشرين جريدة كل ساعة وهذا على مدار اليوم .. وقد ينسى البعض هذا الأمر عندما يزهى بالرضا، وهو يعلن أنه بالإمكان وبفضل الثورة الرقمية استقبال ألف قناة تلفزيونية وأكثر،، وإننا نتساءل عن جدوى كل هذه القنوات وما يمكنه أن تضيف للانسان من معلومات. وعليه فإن المشترك السعيد بعدد القنوات الكثيرة سيجد نفسه أمام رغبة جامحة لا يمكن لأي صورة أن تشبعها، وسيكون بالتالي وسط متاهة كبيرة من التغيير المتواتر للقنوات، ليجد نفسه في الأخير وقد استهلك عددا هائلا من الصور دون أن يستفيد من كم المعلومات والأخبار.
إننا نقول إن الصورة في بعض الأحيان تساوي ألف كلمة، وهذا قول يحتاج إلى مراجعة؛ لأن الصورة قد تكون في حاجة إلى نص شارح، وذلك لمنح المرء فرصة التفكير العميق في المعنى الذي تحمله هذه الصور. كما أن القول بأن البشرية بفضل التكنولوجية الجديدة استطاعت أن تصل إلى ربط الاتصال كاملا بينها قول هو أيضا يحتاج إلى تمحيص .
الأنترنت ..الحياة الخاصة ومسألة الحرية!
هل ننتمي كلنا إلى (فيسبوك )؟ ذلك هو السؤال الذي طرحه لأكثر من خمسة عشرة يوما 175 مليون من معتنقي الإنترنت -إن صحت العبارة-، ففي الرابع من فبراير 2009 عمدت هذه الشبكة الاجتماعية الرقمية إلى تغيير شروط استعمال الموقع الأكثر زيارة في العالم من خلال استيلائها بصفة دائمة على حقوق محتويات الدخول لكل المستعملين. ولكنه بعد الاحتجاجات التي أوجدتها هذه الإجراءات، أعلن الموقع تراجعه عن إجرائه هذا والذي كان ينص على: "إعطاء فيسبوك الحق غير المتنازع عليه والدائم، وغير الحصري، القابل للتحويل العالمي " من خلال إمكانية إعطاء رخصة من الباطن " للاستعمال، نسخ، طبع، توزيع، تخزين، تنفيذ، تحويل، تصوير، تغيير، نشر، ترجمة، اقتباس، إعادة توزيع، أي من محتوى موضوع على الموقع . "
نستطيع أن نقرأ في شروط الاستعمال التي ترافق التسجيل في الموقع، أن مستخدم الانترنت يستطيع مع ذلك سحب هذه الحقوق الخاصة بالمعلومات بناء على الملاحظة التالية: "محتواك الخاص بالمستعمل يمكن مسحه من الموقع في أي لحظة. وإذا قمت بمسح ذلك فإن الحق الممنوح لفيسبوك والمشار إليه سابقا ستنتهي صلاحيته بصفة آلية ".
هذه الإشارة التي تنص على" حق مستعمل الأنترنت في الانسحاب " تبقى نسبية كما أعترف بذلك " مارك زكبرغ " الرئيس المؤسس ( للفيس بوك ) على مدونته بقوله :" حتى ولو قام شخص ما بشل حسابه، فإن أصدقاءه، يحتفظون بنسخة من الرسائل المتبادلة بينهم " .وخوفا على سمعة شبكته الاجتماعية قام ( مارك زكبرغ ) باستدعاء أعضائها لمراجعة نظام رخصة استعمال الموقع .
إن عدم الوضوح الذي أعترى الحدود الممكنة بين الفضاءات العامة والفضاءات الخاصة في " القرية العالمية " يؤدي إلى قلق متزايد بين الناس. وبين السلطات الأوربية المكلفة بالمحافظة على المعلومات والمعطيات الخاصة بهم؛ لأن (فيسبوك ) ما هو إلا الجزء الطافي من جبل الجليد، فعلى مستوى الشبكة العنكبوتية فإن كل شيء مترابط، كما أن الآثار لا تنمحي مع الوقت حيث يمكن تقفيها بسهولة ويسر. وعلى سبيل المثال فلقد قامت مجلة LE TIGRE الفرنسية بنشر تفاصيل حياة أحد الأشخاص المجهولين من خلال المعطيات المنشورة على الانترنت فقط،، وأثبتت بذلك أنه من خلال تلك المعلومات المتوفرة على الانترنت يمكن تتبع أي كان خطوة بخطوة. حيث لم يكن يعتقد المدعو ( مارك ال ) أن الصور والرسائل، وكل المعطيات التي وضعها هنا وهناك على الانترنت على امتداد أعوام عديدة، ستكون كافية لتتبع تفاصيل حياته وأسفاره ومشترياته ولقاءاته العائلية وتفاصيل حياته الخاصة وحتى ومغامرته العاطفية .
ويدفع مستعملو الشبكات الاجتماعية لتقديم أقصى ما يمكن من المعلومات الخاصة بهم ( العناوين، أرقام الهواتف، العمر، الجنس، الديانة، المسار الدراسي، الاهتمامات، الآراء السياسية، ) والمحصلة تكون توفر منجم من المعطيات التي يمكن استغلالها من طرف المعلنين ( مصدر أساسي لتثمين القواعد الاتصالية) ولكن أيضا مصالح الشرطة وعصابات الأنترنت بمختلف أنواعها.
يقول مستعملو الانترنت غالبا إنهم واعون بهذه المخاطر.. ولكنهم لا يأخذون احتياطاتهم بالقدر الكافي، فلقد أشار مسح أجري في بريطانيا أن تسعين في المائة من البريطانيين يرغبون في وجود قواعد أكثر تشددا فيما يخص حماية المعطيات الرقمية. فيما يشير مسح آخر أجري في ألمانيا أن اثنين وخمسين في المائة من السكان عزفوا عن استعمال الهاتف أو الأنترنت في اتصالاتهم السرية، وذلك بالرغم من أن الرقابة البوليسية على الاتصالات الالكترونية قد تم تشديدها في هذا البلد. وبحسب دراسة نمساوية قام بها فريق بحث يسمي نفسه eTheory تابع لجامعة ( سالزبورغ ) فان 56 في المائة من عينة تبلغ 674 طالب يستعملون المواقع الاجتماعية، يعتقدون أن هناك خطر مراقبة اقتصادية وسياسية على معطياتهم الشخصية، وأن 82 في المائة يقرون أن ليس لديهم معرفة مؤكدة بخصوص الاستعمال الممكن للمعطيات الخاصة بهم . ولكن مزايا ديمومة الاتصال مع الأهل الأقارب تبقي المواقع الالكترونية بالنسبة إليهم ذات أولوية .
وبعيدا عن الفوائد الاقتصادية، فإن حماية المعطيات الخاصة لا تؤدي إلى نفس القلق في المناطق المختلفة من العالم، فعلى النقيض من أوربا المهتمة كثيرا بهذه المشكلة فإن القارة الآسيوية لا تعتبر ذلك أولوية، ناهيك عن بلداننا العربية . أما في الولايات المتحدة وهي مقر الشبكات الاجتماعية الأساسية، فإن 35 في المائة من البالغين و65 في المائة من المراهقين لديهم ملفا أو أكثر على واحد أو يزيد من هذه المواقع حيث يعتبرون أن حماية معلوماتهم الخاصة على الأنترنت هي من مسؤوليتهم الفردية قبل كل شيء.
هل الاتصالات الحديثة خطر على العقل البشري؟؟
هل يمكن لتوفر المعلومات أن يجعل منا علماء أو مثقفين؟!، وهل مازال مفتاح العلم يكمن في التجربة والتعليم والدراسات المعمقة. أو أن الأمر أضحى مركزا في التأقلم السريع مع محركات البحث عن المعلومة عبر مختلف قنوات التنقيب التي تمنحها الانترنيت، حتى أصبح هذا النوع من الاتصال شكلا من أشكال (العقيدة ) لدى بعض طلاب الجامعات وبعض الباحثين حاليا، وهو ما قد يدعونا إلى التأسف على نهاية وشيكة للاتصال الحقيقي، المباشر، من شخص إلى شخص!. وبعصبية قد نتابع حصول سيناريو كابوسي أعلن عن بوادره الأولى من خلال غلق كل واحد منا على نفسه داخل غرفته، منقطعا عن الجميع في وحدانية بشعة .. غير أنه متصل بالكون بعالم افتراضي، كله عن طريق الأنترنيت، معلنا نهاية عهد الاتصال الحقيقي .
وما الخبر الذي أوردته الصحف عن والدين صينيين أغلقا على نفسيهما باب غرفتهما، واستغرقا في التجوال عبر الأنترنت، تاركين ابنتهما الصغيرة تموت وحدها جراء إهمالهما في الغرفة المجاورة، إلا مثالا صارخا عن الاستهتار الذي دمر العلاقات الانسانية أو هو في طريق تدميرها ..
يرى ( دان غيلمور ) مدير مركز «نايت» لريادة الإعلام الإلكتروني في جامعة ولاية أريزونا في كتابه: «نحن الإعلام: الصحافة الشعبية من الناس وللناس». أن الصحافي،المشاهد والمستمع... أضحوا جزءاً لا يتجزأ من المطبخ الإعلامي، خصوصاً أن الصحافي المواطن بات لا يقنع بالأخبار التي تأتيه من الإعلام التقليدي، بل أصبح ينشر ما يقع تحت يديه في وسائل الإعلام الجديدة والمتنوعة، ما يعني وصول المادة الإعلامية إلى شرائح وفئات عدة. ويؤكد غيلمور في كتابه أن سطوة صانعي الأخبار في العالم تتلاشى يوماً بعد يوم، في ظل ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، إذ «أصبحنا جميعاً نملك مطبعة»،ويقصد بذلك كمبيوتر، وبالتالي أصبح بإمكان أي شخص إنتاج الأخبار أو نشر وجهة نظره بسهولة.
ويشير( دان غيلمور ) إلى أن المشكلة التي ستواجه الإعلام مستقبلاً ليست في تعدد الوسائل، ولكن في مدى صدقية الأخبار والمعلومات، ذلك أن «متلقي المادة الإعـلامية ســيقـع عـليه عـبء الـبحـث المـستمر للتأكد من صـحة الـمعلومة المعروضة. فأي فرد يملك الموهبة والوقت أصبح باستطاعته الآن إقامة نظام بث محمول أو وسيلة إعلامية جديدة، من دون أن ينفق ثروة في ذلك».
وبانبهار ودهشة في الوسائل الحديثة أضحى معظم الناس يتأقلمون مع عالم جديد يعلن عن استحالة العيش بدونه ..في وقت لا يقوم هؤلاء الناس بأي اعتراض، بل هم أكثر من ذلك سلبيون، يتلقون الأخبار والمعلومات دون تمحيص ولا مرجعية مهنية ...وتأتي الخطورة من عدم وجود ضوابط مهنية للكم الهائل من الأخبار والمعلومات المتدفقة على مدار الساعة في الشبكة العنكبوتية. وإذا كانت التكنولوجيا قد وفرت هذا المدد الهائل من المعلومات بسهولة ويسر، فلا عجب أن نجد الكثير من المستغلين لهذه الفرصة، سواء لتحقيق ربح مادي، أو لتحقيق فوائد اجتماعية، أو لسياسية ليست بالضرورة بريئة.
ومن جهة أخرى قد يتحول هذا الكم الهائل من المعلومات الذي يفترض أن يقدم تسهيلات للإنسان الساعى للمعرفة، إلى نتيجة عكسية تماما، فعامل التدفق المعلوماتي قد يتحول إلى كابح للقدرة على الاستيعاب، ومن ثمة يؤثر سلبا على النتيجة المتوخاة من المعرفة، التي هي في الأصل محصلة لمعلومات مبوبة، مفهومة،وقادرة على إنتاج العلم، أو الاختراعات، أو الابتكارات، أو النظريات، في المجالات الفلسفية والاجتماعية أو التقنية.
وانطلاقا من ذلك، يمكن القول أننا أمام مشاكل جديدة تعترض العقل البشري، وهي مشاكل تتعلق بمناهج التدفق المعلوماتي. فأمام الإنسانية تحد آخر يتعلق بإيجاد آليات لترشيح و( فلترة ) المعلومات، ليس بالشكل البوليسي الردعي، وإنما بطرق علمية،.. يعني ذلك الجد في البحث عن مناهج جديدة لتدفق المعلومات، وهي مشكلات بدأت تظهر بالفعل أمام الباحثين والدارسين والعلماء. وإذا كانت بعض الدول قد أوجدت بعض العيادات المتخصصة لعلاج مدمني الأنترنت،فإنه من الأجدى البحث عن طرق وقائية تحمي البشرية من الوصول إلى المرحلة الاستشفائية وانقاذها من مرحلة الجنون المعلوماتي إن جاز لنا قول ذلك.

خليل بن الدين
كاتب صحافي، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً مشرف مراسلين في قناة الجزيرة.
التعليقات