الاعلام الجزائري: الغائب والغائم والغانم والغالب

ملاحظة: هذا المقال خاص برابطة الاعلاميين الجزائريين في الخارج، لا يجوز إعادة نشره إلا بإذن من الرابطة.
لا أحد في الجزائر أو من الجزائريين راهنًا يبدي اعجابًا كاملا أو كافيا، بما هو وضع الإعلام في البلاد، سواء الأداء الذي نلاحظه أو حال الإعلاميين والصحافيين، أو حتى القوانين المنظمة للقطاعات، دون أن ننسى ـ وهذا الأهمّ ـ العلاقة المتوترّة والمتقلبة، بين النظام السياسي القائم من جهة وكلّ المنظومة الاعلاميّة، ضمن المعنى الواسع للكلمة.
بقلم: نصر الدين بن حديد
صحفي وإعلامي جزائري مقيم بتونس
إنّه حال من عدم التوافق أو هو انعدام الحدّ الأدنى من التجانس، بين تشخيص الوضع القائم، وخصوصًا الأداء الاعلامي، الذي لا يرقى إلى الحدّ الأدنى المطلوب أو المقبول، من جهة وبين ما شرعت فيه البلاد من "إصلاحات سياسيّة" رافقتها تغيّرات في المشهد برمّته، سواء على المستويين الشكلي أو الوظيفي، دون أن ننسى العشريّة السوداء التي أكلت عشرات من خيرة الاعلاميين في البلاد، وأورثت توتّرا عامّا لا يمكن نكرانه أو تجاوزه.
إنّها حالة وسطى أو هي حالة انتقال تأبى اتمام المسيرة واكمال المسار. أشبه ما يكون ركود في منتصف الطريق، حين يمكن الجزم أنّ الإعلام في الجزائر لا يعيش حال من التكميم (المطلق)، على شاكلة الدكتاتوريات البدائيّة، لكنّه لا يعيش حال من الحرّية الفاعلة والقادرة على المضيّ بالمشهد العام للبلاد نحو الأفضل.
عَجْزٌ هو عن اكمال المسار وعَجْزٌ كذلك عن قيادة المجتمع، دون أن ننسى العجز عن التحوّل إلى الرافعة الأولى والأهمّ للتحوّل الديمقراطي المطلوب والمرتقب.
كذلك ـ وهذا الأخطر ـ لا يتبيّن لزائر الجزائر أنّ الجسد الصحفي أو الإعلامي، يحمل من الوعي بذاته وبدوره، ومن ثمّة بمكانه ومكانته وحقوقه، ما يكفي ليكون شريكًا فاعلا، ضمن جميع المعادلات المنظمّة للقطاع أوّلا، ومن ثمّة يكون فاعلا على مستوى التحوّلات الكبرى في المجتمع الجزائري عامّة.
إنّه التناقض بين مشهدين، أحدهما يخفي الآخر ويستثنيه، أولهما مشهد التفاعلات الظاهرة بين الأطراف المتدخلة في صناعة المنتوج الاعلامي القائم راهنًا في الجزائر، من وجود لحدّ أدنى من التباين (على مستوى خطوط التحرير)، ومن "تنافس محموم" (أحيانًا) بين هذه الأقطاب المؤثرة في المشهد السياسي والإعلامي، من جهة، في مقابل المشهد الحقيقي، القائم على أمرين: ضبط الحدود الحمراء أمام "الانفلات المقبول" (أو حتّى المطلوب لضمان جمالية المشهد) وكذلك "قوانين لعب" غير منظورة وغير جليّة، بين الأقطاب الماسكة (حقيقة) لأدوات التسيير، لا يفقه تفاصيله غير العارفين بدواخل المطبخ الجزائري.
المسألة برمّتها، بخصوص الإعلام في الجزائر، وكذلك مجمل المشهد، تكمن في حفظ العلاقة القائمة بين "ظاهر المشهد"، في مقابل "آلية التسيير"، وكذلك التوازنات القائمة (المتغيّرة وفق ناموس معيّن) بين الأطراف الماسكة لخيوط اللعبة.
الخطر لا يكمن في اهتراء أدوات هذه المنظومة من الداخل، أو عدم قدرتها على تأمين الحدّ الأدنى من علاقة "الفعل الميكانيكي" و"الممارسة الوظيفيّة" فقط، بل ـ وهنا الأخطر ـ في عدم قدرة المنظومة برمّتها على الثبات، سواء أمام حاجات/احتياجات/احتجاجات عمق شعبي، لا تبدو علاقته وثيقة بهذه المنظومة الاعلاميّة ومن ثمّة السياسيّة، وكذلك في عدم القدرة على التأقلم مع حجم المتغيّرات على المستوى العالمي، حين لم يعد من الممكن مجرّد التفكير لحظة، بالنأي عن هذه المتغيّرات أو حتّى الحدّ من تأثيراتها.
حين نوسّع دائرة الرؤية ونغادر المستويات الوظيفية المباشرة، تبدو جليّا ـ وهنا السؤال ـ العلاقة العضوية بين مجمل هذه "الآليات" (ضمن مختلف درجاتها) و"الاستقرار" في البلاد (ضمن مختلف معانيه)، ومن ثمّة يكون العود بالسؤال (البديهي وحتّى الفطري) إلى معنى "الحكم" وماهيّة "الحاكم" ضمن الواقع الجزائري؟
لم يعد من الممكن الحديث عن وجود أيّ "الكيان السياسي" دون تأمين منظومة اعلاميّة متناسقة، تؤمّن لذاتها الاستقرار وتؤمن للمجموعة ما يكفي من "عمود فقري" يؤمّن بدوره ـ كمثل الشرايين ـ علاقة سلسة بين مختلف الأطراف المجتمعيّة والسياسيّة.
حين نُجمع على اليقين، بعدم ارتقاء الاعلام في الجزائر إلى الحدّ الأدنى المقبول أو المطلوب، وحين نؤمن جميعًا بأن الذهاب بالوضع نحو الأفضل لا يمثّل ترفًا معرفيّا، أو مجرّد لعبة (كما هي السياسة) لإعادة توسيع المنافع الحزبية والمواقع الشخصيّة، بل مسألة "وجوديّة" (ضمن المعنى المباشر للكلمة)، يكون السؤال الحتمي: هل تملك الطبقة السياسيّة في الجزائر ومن ورائها كامل الطيف الإعلامي في البلاد، من الوعي ما يجعل الجميع يدرك أنّ الوضع أشبه بما جاء في "كليلة ودمنة"، حين تلهى الرجل بأكل العسل في بئر والجرذان تقضم الحبل، في حين تتأهب ثعابين في القاع لالتهامه؟؟؟
ليس المطلوب من كامل الطبقة السياسيّة في الجزائر وتوابعها الاعلاميّة، أن تترك معاركها المزمنة (حول السياسة ومن أجلها) جانبًا أو تعلن "هدنة" أو ترتفع إلى مستوى (طوباويّة) "فرسان الخرافات"، حين لا يمكن، وليس المطلوب من أي طبقة سياسيّة أن تتحوّل إلى "نوايا مجرّدة"، بل المطلب (الضروري والملحّ) أن تجاوز هذه الطبقة وتوابعها، مستوى القراءة (الغرائزيّة) للمشهد العام، وتتحوّل من منطق "الصراع التقليدي" (القائم) داخل الجزائر، إلى توسيع الرؤية، لتشمل وتتأسّس على قراءة مباشرة ومنطقيّة ومتجرّدة من كلّ الغرائز البدائيّة للوضع العام في البلاد.
اعتاد العقل العربي عامّة وترسّخ، في الجزائر أساسًا، على نمط "اقطاعي" للسلطة السياسيّة، رغم "الحداثة" التي لم تتجاوز بعد مجرّد "الأدوات" (القابلة أو المطلوب تغييرها عند الضرورة)، ليترسّخ "الاعلام" في صورة "الأداة" (ضمن الأدوات الأخرى)، لضمان الدوام السياسي والسيطرة المستمرّة. المجال لا يستّع لمناقشة (دواخل) هذا "العقل" الحاكم والماسك والمسيطر ليس فقط على مجمل السياسة في الجزائر، بل على العقل الاجتماعي والجمعي برمّته، حين يمكن الجزم بانعدام قدرة الفصل (اجرائيّا ومنهجيّا) بين "المنظومة الحاكمة" و"المنظومة الاعلاميّة"...
يتطلّب اصلاح "المشهد الاعلامي" الجزائري (أو في الجزائر)، عدم فصله عن "المشهد السياسي" عامّة، وكذلك وضع ما يجب من الفوارق بينهما والتأكيد الشديد على أهميتها، ليس فقط بضرورة تجاوز علاقة "الدونيّة"، بل تفادي حالة التوظيف "البدائي" في الصراعات والتبعيّة في الوظيفة، القائمة راهنًا، من خلال اقناع "أصحاب القرار" (الإعلامي/السياسي)، أنّ زمن "التبعيّة" ليس ولّى وانقضى فقط، بل بعدم مردوديته، إن لم نقل (وهنا الخطر) انقلابه (الأكيد) إلى نقيضه، أي "انقلاب السحر (الفظيع) على الساحر (المغرور)".
أوّل شروط هذه "الصحوة"، وهي الخطوة الأصعب، بل على قدر كبير من العسر، الذهاب في حال من التأسيس المتدرّج والمتبادل للطمأنينة، حين يخشى كلّ طرف سياسي داخل الجزائر ومن ورائه تابعه الاعلامي، ليس فقط فقدانه لسلاحه (تقليدي)، بل من عدم السيطرة على الأدوات الجديدة، وثالثًا أن يكون الطرف المقابل متمكنا منها، ممّا سيحسم ـ وفق ذات الرأي ـ "المعركة" ويذهب بموازين القوى التقليديّة نحو منحى جديد ومجهول.
تكمن "العقدة" في البحث (كمثل حال "الأميرة النائمة") عن تأمين "شروط استفاقة" (عامّة) أساسها، أنّ الخطر القادم من خارج "قارب السلطة/الاعلام" أشبه ما يكون بالسيل العارم الذي هزّ الدنيا زمن نوح عليه السلام، ومن ثمّة لم يعد من الممكن أو المقبول، الاستعاضة عن التحوّلات الاقليميّة والانقلابات العالميّة، بصراعات "داخليّة"، وأيضًا، أنّ الانهيار أمام هذا "السيل" (الخارجي) يتجاوز بالعقل والمنطق الاستراتيجي أيّ خسائر تخلّفها "الحروب المحليّة"، التي تبدو، بل هي حقيقة مقارنة بالمعادلة الكبرى، كمثل صراع "ديكة" تحت أرجل ديناصورات هائجة.
من ذلك تأتي ضرورة التأسيس لما يمكن أن ندعوه "قواعد اعلاميّة" جديدة، أو هو "ميثاق" أو "مانيفستو"، يحدّد الخطوط العريضة للتوجه الاعلامي العام، حين وجب الاعتراف بالعجز (الطبيعي) عن أمرين شديدي الأهميّة: تأسيس "كلّ شيء دفعة واحدة"، وكذلك "التغاضي عن خطورة الوضع السياسي/الاعلامي الحالي"، لارتباط هذه المعادلة (السياسيّة/الاعلاميّة) ارتباطا وثيقا بالاستقرار الاجتماعي...