الثقافة في زمن التعليب والتسطيح والاستلاب

بقلم أ.د/ محمد قيراط - أستاذ الإعلام بجامعة قطر
أدت التطورات السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والانتشار الواسع لوسائل الإعلام في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - من انتشار الصحافة ذات التوزيع الكبير إلى اختراع السينما والراديو والتلفزيون إلى انتشار الكتاب، وأخيرا انتشار الوسائط المتعددة والانترنيت- إلى "جمهرة" و جمماهرية الثقافة حيث جعلتها في متناول الغالبية العظمى من أفراد المجتمع.
فإذا كانت الثقافة قبل هذه الاختراعات تقتصر على نخبة من النبلاء و البورجوازيين فإنها اليوم انتقلت من النخبوية إلى الجماهيرية. الأمر الذي أدى ببعضهم للكلام عن ديمقراطية الثقافة و جماهيريتها. لكن هل هذا الانتشار و هذه "الدمقرطة" التي يدعيها البعض بريئة و لا تحكمها آليات و ميكانيزمات و قيم و معايير تخدم القوى السياسية و الاجتماعية التي تدير و تقود المجتمع؟ هناك من يرى أن انتشار الثقافة على نطاق واسع أدى إلى مساءلة ظاهرة الصناعات الثقافية التي أدت إلى تعليب الثقافة وتنميطها و من ثم إلى توحيد الخطاب الإعلامي و الثقافي و من ثم القضاء على الخصوصيات الثقافية. ما هي تداعيات تصنيع الثقافة و تعليبها و تنميطها و تفريغها من محتواها على الثقافة نفسها؟ ثم على المتلقي؟ أسئلة جديرة بالدراسة نظرا لأهميتها ووقعها على، ليس المستوى القطري فقط و إنما على المستوى الإقليمي و الدولي كذلك. ألا تساهم وسائل الإعلام في نشر ظاهرة الأحادية أو التوحيد الثقافي؟ ألا تساهم في عولمة الثقافة لصالح دولة معينة،و هي الولايات المتحدة الأمريكية.
أفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة و الدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها بدون هوادة. فالسلطة الحقيقة في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا عن ميزانيات بعض الدول و الحكومات، بل مجموعة من الدول والحكومات. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات و تطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية و الثقافية على المستوى العالمي. و بذلك أصبحت وسائل الإعلام الذائعة الانتشار كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة و الشبكات التلفزيونية و الانترنيت تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة مثل "فياكوم" و"نيوزكورب" و"مايكروسوفت" و"برتلسمان" و"يونايتد غلوبال كوم" و "ديزني" و "تلفونيكا" و "آ أو أل تايم وارنر" و جنيرال إليكتريك" وغيرها. هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، و بفضل التوسع الهائل و السريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة إمكانات و قدرات هائلة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية – الكتابة-الصوت-الصورة و فتحت المجال أمام الانترنيت و الوسائط المتعددة و الثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعملة لبث و نشر ذلك، قنوات متعددة و متنوعة من صحف ومجلات وإذاعات و قنوات تلفزيونية و كوابل و بث فضائي و شبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية و الانترنيت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي حيث أنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية و عالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة و من خلال آليات الهيمنة و التمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول و القارات لتصبح بذلك الرافد الفكري و الأيديولوجي للعولمة الليبرالية. فلا عولمة بدون عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية و عولمة الصناعات الإعلامية و الثقافية. و يرى إغناسيو راموني، رئيس تحرير " لو موند ديبلوماتيك" في هذا الشأن أن العولمة هي أيضا وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال و الأخبار. و في سياق اهتمامها بتضخيم حجمها واضطرارها لمغازلة السلطات الأخرى فإن هذه الشركات الكبيرة لا تضع نصب أعينها هدفا مدنيا يجعل منها "السلطة الرابعة" المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون واختلال العمل بالنظام الديمقراطي سعيا إلى تحسين النظام السياسي و تلميعه.فلا رغبة لهذه الشركات في التحول إلى "سلطة رابعة" أو التصرف كسلطة مضادة. فالحالة الفنزويلية نموذجية على هذا الصعيد للوضعية الدولية الجديدة التي تشهد مجموعات إعلامية غاضبة تتنافس علنا للقيام بوظيفة كلاب الحراسة الجديدة لدى النظام الاقتصادي القائم وممارسة دورها كسلطة معادية للشعوب والمواطنين. وهي لا تخوض فقط في سلطتها الإعلامية بل تمثل الذراع الأيديولوجية للعولمة ووظيفتها احتواء المطالب الشعبية وصولا إلى محاولة الاستيلاء على السلطة السياسية (كما توصل إلى ذلك ديمقراطيا في إيطاليا السيد سيلفيو برلوسكوني، صاحب أكبر مجموعة إعلامية ما وراء جبال الألب)... هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليغارشية التقليدية و الرجعية الكلاسيكية. و تقوم معا، و باسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة وهي تكشف بأكثر الصور وضوحا و بداهة و كاريكاتورية عن أيديولوجية العولمة الليبرالية.
نلاحظ من جهة أخرى أن الكثيرين تفاءلوا خيرا و ظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجية الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار و في الممارسة السياسية و في صناعة القرار. لكن الواقع أثبت عكس ذلك تماما حيث أن ظاهرة الاغتراب والتهميش و انتشار ثقافة الاستلاب و الاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة سواء في الشمال أو الجنوب. و في هذا السياق يرى "جون ألترمان" هذه الإشكالية في الشرق الأوسط على النحو التالي:"بعقدهم آمالا كبيرة على التطور التكنولوجي العالي؛ الانترنيت، والتفاعلية والربط الشبكي، يتوقع المتحمسون وأنصار التواصل الرقمي عالما تتوسع فيه سلطة الجماهير، الأمر الذي يؤدي إلى كبح جماح الجبابرة، و رفع رايات الديمقراطية في أرجاء المعمورة. هذه الرؤية لم يتم تحقيقها في الشرق الأوسط ومن غير المحتمل أن تتحقق في الوقت القريب. وفي حقيقة الأمر فإن التطورات التكنولوجية، على المدى القصير، من شأنها عادة زيادة الفوارق في النفوذ و السلطة بين الأغنياء والفقراء. فالفوائد التي تجنى من الابتكارات العصرية تزيد من نفوذ أصحاب المال و ذوي الدخل العالي وأصحاب الفرص والشهادات والتدريب الجيد؛ بينما يحرم الفقر والعزلة الغالبية العظمى من سكان الشرق الأوسط من الاستفادة بشكل مباشر من ابتكارات التكنولوجية العالية.
هناك ثلاث شروط رئيسية لتوقعات التطور المستقبلية في الشرق الأوسط وهي الحرية والتمويل والاحترافية. و يبقى التلفزيون في الوطن العربي حبيس الأنظمة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية من جهة، و تابع لشبكة عالمية من الصناعات الإعلامية و الثقافية التي لا ترحم ولا تشفق على من لا ينتج و ينافس. فبوجود أكثر من 1400 فضائية عربية ناهيك عن انتشار الانترنيت و الهاتف النقال ووسائل الإعلام الجديدة زادت الهوة عمقا بين المدينة و الريف في الدول العربية، كما اتسعت المساحة بين الحاكم والمحكوم. كما زادت تبعية الإعلام العربي في ظل العولمة إلى كبريات الصناعات الإعلامية والثقافية في العالم، وأصبحت معظم الوسائط الإعلامية في الوطن العربي عبارة عن صناديق بريد تستقبل و توزع ما يرد من وراء البحار. و على حد قول إغناسيو راموني فإن الفضاء الإعلامي في الألفية الثالثة أصبح فضاءً ملوثا يتعرض باستمرار وبدون انقطاع لعدوى التسمم بالأكاذيب و التلوث بالشائعات والتشويه والتحريف والتلاعب. فالأمر إذن، يتطلب تنقية البيئة الإعلامية و تعقيم الإعلام من احتكار حق التعبير و مصادرة حرية الفكر والرأي والصحافة من قبل حفنة من المجموعات الإعلامية العملاقة.